فصل: تفسير الآيات (42- 50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (23- 30):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)}
الملأ: زعماء القوم. يتفضل عليكم: يدعي الفضل والسيادة. به جِنة: مجنون. فتربصوا: فانتظِروا. بأعيينا: بحفظنا ورعايتنا. فار التنور: نبع منه الماء بقوة، والتنور: فرن خاص يخبز فيه. فاسلك: فادخل. استويت: استقررت على الفلك. لمبتلين: لمختبرين.
بعد أن عدّد سبحانه ما أنعم به على عباده في نشأتهم الأولى، وفي خلْق الماء لهم لينتفعوا به، وانشاء النبات وما فيه من الثمرات، وفي خلق الحيوان وما فيه من المنافع للإنسان- ذكَر هنا ان كثيراً من الأمم قد أهملوا التدبر والاعتبار في هذا، فكفروا بهذه النعم، وجهلوا قدر المنعم بها، وعبدوا غيره، وكذّبوا رسلَه الذين أُرسِلوا اليهم... فأهلكهم الله بعذاب من عنده. وفي هذا إنذارٌ وتخويف لكل من ينحرف ويكذّب ويعبد غير الله.
وقد مرّت قصةُ نوح في سورة هود بتفصيلٍ أوسعَ في الآيات 25 إلى 49 ومر شرحها فلا داعي لتكرار ذلك، وانما اذكر موجَزا لبحثِ قيّم اورده الدكتور موريس بوكاي في كتابه (التوراة والإنجيل والقرآن والعلم) اذ يقول ما ملخصه:
(الاصحاحات 6، 7، 8، من سفر التكوين مكِّرسةٌ لرواية الطوفان، ويشكل أدقّ روايتين غير موضوعيتين جنبا إلى جنب.... والحقيقة أن في هذه الاصحاحات الثلاثة تناقضاتٍ صارخة. وتقول الرواية: إن الأرض تغطّت حتى قمم الجبال وأعلى منها بالماء، وتدمَّرت الحياة كلها، وبعد سنةٍ خرجَ نوح من السفينة التي رست على جبلِ أراراط بعط الانحسار.
وتقول الرواية اليهودية ان مدة الطوفان أربعون ويما، وتقول الرواية الكهنوتية ان المدة مئةً وخمسون يوماً.
ومعنى هذا ان البشريَّة قد أعادت تكوينها ابتداءً من أولاد نوح وزوجاتهم.... ان المعطيات التاريخية تثبت استحالَة اتفاق هذه الرواية مع المعارفِ الحديثة. فإذا كان الطوفان قد حدث قبل ثلاثة قرون من زمن ابراهيم، كما يوحي بذلك نصُّ سِفر الكوين في الانساب، فإن الطوفان يكون قد وفع في القرن 21 أو 22 قبل الميلاد.
وفي العصر الحديث لا يمكن تصديق هذا التاريخ، إذ من المعلوم بأن حضاراتٍ متقدمةً بقيت آثارها خالدة قد نمت في هذه الفترة في بلاد ما بين النهرين وفي مصر. فكيف يكون الطوفان قد عمّ الأرضَ جميعها!! فالنصوص التوراتية إذنْ في تعارضٍ صريح مع المعارف الحديث.
وان وجود روايتين لنفس الحدَث، هذا بالاضافة إلى التضارب الذي تحويانه- يوضح بصورةٍ قطعية ان ايدي البشَر قد حوّرت الكتب التوراتية.
اما القرآن الكريم فان رواية الطوفان فيه كما يبسطها تختلف تماماً عن رواية التوراة، ولا تثير أيّ نقدٍ من وجهة النظر التاريخية. وذلك لاسباب بسيطة جداً، فالقرآن لا يحدد الطوفان بزمان، ولا يذكر كارثةً حلّت بالأرض قاطبة، ولكنه يذكر عقاباً سُلِّط على قومِ نوح دون سواهم، وهذا يدل دلالةً قاطعة على أن القرأن أُنزل بنوحي من عند الله).

.قراءات:

قرأ أبو بكر: {منزلا} بفتح الميم وكسر الزاي، والباقون: {منزلا} بضم الميم وفتح الزاي. وقرأ حفص عن عاصم: {من كلِ زوجين اثنين} بتنوين {كل}. والباقون: {من كل زوجين} بالاضافة.

.تفسير الآيات (31- 41):

{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)}
القرن: الأمة، أهل العصر الواحد، والمراد بهم هنا عاد، قوم هود، لقوله تعالى في سورة الاعراف: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}. ارفناهم: وسّعنا عليهم الرزق وجعلناهم في ترف ونعيم. لخاسرون: مغبنون. هيهات: بضعُد ما توعدون وهو البعث والحساب. ليصبحن: ليصيرن. الصيحة: العذاب. غثاء: هو ما يحمله السيل من الاشياء التافهة التي لا يُنتفع بها. بعدا: هلاكا.
{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ....}.
ثم أوجدنا من بعد مَهْلَكِ قوم نوحٍ قوماً آخرين هم قومُ عاد، فأرسلْنا فيهم رسولاً منهم هو هود، وقد تقدم الكلام عليهم في سورة هود من الآية 50 إلى 65، فقال لهم الرسول: اعبُدوا الله لا إله إلا هو، أفلا تخافون عذابه؟ فقال زعماء قومه من الذين كفروا وكذّبوا بالحياة الآخرة، وقد وسَّعنا الرزقَ في هذه الحياة: ما هذا الا بشر مثلكم. ولئن أطعتُم بشَر مثلكم إذنْ أنتم خاسرون. وهذا يَعِدكم أنكم إذا متُّم وصِرتم تراباً وعظاماً بالية أنكم بعد ذلك لَمبعثون من جديدٍ، ومحاسَبون على ما قدّمتم من اعمال. وذلك غير معقول، هيهاتَ هيهاتَ لِما توعَدون. ليس هناك الا حياة واحدة هي هذه الحياة الدنيا التي نجد فيها الموت والحياة، ولن نُبعث بعد الموت أبدا.
وما صاحبكم هذا الا رجلٌ كذب على الله، وادّعى أنه أرسله، وكذَب فيما يدعو اليه، ولن نصدّقه ابدا.
قال هود بعد ما يئس ما إيمانهم: ربّ انصُرني عليهم وانتقمْ منهم، بسبب تكذيبهم لدعوتي. قال الله له مؤكدا وعده: سيندمون بعد قليلٍ على ما فعلوا عندما يحلُّ بهم العذاب.
فأخذتْهم صيحةٌ شديدة أهلكتهم، وجعلناهم كالغُثاء الذي يجرُفُه السيِّل، فبُعداً للقوم الظالمين.

.تفسير الآيات (42- 50):

{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)}
تترى: متتابعين، تواترت الاشياء تتابعت مع فترات، واتر الشيءنَ: تابعه. وجعلناهم احاديث: يتحدث الناس بما جرى عليهم. بآياتنا: هي الآيات التسع التي سبقت في سورة الاعراف. وسلطان مبين: حجة واضحة. عالين: متكبرين. ربوة ذات قرار معين: الربوة: المرتفع من الأرض، ذات قرار: مستوية يستقر عليها الناس. معين: ماء. وهي القدس.
{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}
ثم خلقنا من بعدهم أقواماً غيرهم، كقومِ صالحٍ ولوطٍ وشُعيب. ولكل أمةٍ زمنُها ووقتُها المعيّن، لا تتقدم عنه ولا تتأخر، وكذلك لا تهلك أمةٌ قبل مجيء أجلِها ولا بعده.
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ}
ثم أرسلْنا رسُلَنا متتابعين، كلاَّ إلى قومه، وكلّما جاء رسول قومَه كذّبوه في دعوته، فأهلكناهم متتابعين، وجعلنا أخبارَهم أحاديثَ يردّدها الناس ويعجبون منها. ومثلُ هذه الآية قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19]. فبعداً لهم عن الرحمة، وهلاكاً لقومٍ لا يؤمنون.
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ.....}
ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بعد الرسُل الذين تقدّم ذِكرُهم إلى فرعون وقومِه، وفامتنعوا وتكبروا ولم يؤمنوا، وقالوا في تعجُّب وإنكار: أنؤمن بدعوةِ رجلَين من البشر مثلنا، وقومُهما لنا خاضعون وخادمون لنا كالعبيد!! فكذّبوهما في دعوتهما فكانوا من الملهَكِين بالغَرَق.
ولقد أوحينا إلى موسى بالتوراة، ليهتديَ قومُه بما فيها من أحكام وإرشادات لعلَّهم يهتدون. وجعلنا عيسى بنَ مريم وأُمّه: في حملها به من غير ان يمسها بشر، وفي ولادته من غير أبٍ- دلالةً قاطعةٌ على قدرتنا البالغة، وأنزلناهما في أرضٍ طيبة مرتفعة يجدان فيها الرعاية والإيواء. ففي كل هذه الآيات اجمالٌ وتلخيص لتاريخ الدعوة، يقرر سُنة الله الجارية، في امد الطويل بين نوح وهود وموسى وعيسى، كل قرن يستوفي أجَله ويمضي.

.تفسير الآيات (51- 56):

{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)}
أُمتكم: ملّتكم وشريعتكم. فتقطعوا: تفرقوا وتمزقوا. زُبُرا: قطعا وجماعات واحدها زُبْرة. فذرهم: دعهم واتركهم. في غمرتهم: في جهلهم، وأصل الغمرة الماءُ الذي يغمر القامة ويسترها. حتى حين: إلى ان يموتوا فيستحقوا العذاب.
{يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}
هذا نداؤٌ لجميع الرسُل في كل زمان ومكان، ان يأكلوا من الحلا الطيب، وان يعملوا في هذه الدنيا ويعمُروها، فالعملُ من مقتضيات البشرية. فالرسُل كلُّهم يتلقَّون من عند الله، لا فرقَ بين أحدٍ منهم والآخر.
وهذا النداء، وإن كان موجَّهاً إلى الرسُل والأنبياء فانه أيضا لأممهم جميعاً. فهو نداء لجميع الناس في جميع الأقطار أن يأكلوا من الحلال الطيب، وان يعمروا هذه الأرض، بالأعمال الصالحة. ثم قال في ختام الآية: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} لا يخفى عليَّ شيء منهان وأنا مجازيكم على ما تعملون.
{وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون}
يقرر الله تعالى في هذه الآية وَحدةَ الأديان، وأنها كلّها من عنده، غايتها واحدة، هي الدعوةُ إلى عبادة الله وحدضه لا شريكَ له، والعملُ على إحياء هذه الأرض. والجدّ والكدّ في سبيل الأمة وتماسكها ووحدتها.
وفي هذا دليل كبير على وَحدة الدين، وأن الأديان جميعَها من عند الله، لكن الأمم اختلفت وخالف الناسُ رسُلَهم واتبعوا اهواءهم فبدّلوا وغيّرواوتفرقوا شِيعاً واحزاباً، كما قال: {فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.
فتفرّق أتباع الرسُل والأنبياء فِرقاً وأحزابا، وأصبح كلّ فريقٍ معجَباً بنفسه، فرِحاً بما عنده، معتقدا أنه على الحق وحده. فبعد أن كان الرسل أمةً واحدة ذاتَ كلمة واحدة وعبادة واحدة تفَرّق الناس من بعدِهم شيعاً واحزابا لا تلتقي على منهج ولا طريق.
{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ}.
الخطابُ للنبيّ الكريم عليه صلواتُ الله وسلامه، فاترك الكافرين يا محمد في جَهالتهم وغفلتِهم ما دمتَ قد أدَّيتَ رسالت:، حتى يقضيَ الله فيهم فيفاجئهم المصيرُ حينَ يجيء موعده المحتوم.

.قراءات:

قرأ أهل الكوفة: {وإِنَّ امتكم} بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر: {وان} بكسر الهمزة وسكون النون. والباقون: {وان} بفتح الهمزة وتشديد النون.
ثم بين خطأهم فيما يظنون من أن سعةَ الرزق في الدنيا علامةُ رضا الله عنهم في الآخرة فقال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ}.
أيظن هؤلاء المغرورون ان المقصود مما نعطيهم من الأموال والأولاد والرزقِ الواسع هو المسارعةُ بالخيرات لهم! إنما هي فتنةٌ لهم وابتلاء، إنهم لا يشعرون أنني غيرُ راضٍ عنهم، ولا أن هذه النعم استدراجٌ منّي لهم، ثم وراءها المصيرُ المظلم.

.تفسير الآيات (57- 62):

{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)}
من خشية ربهم: خوف ربهم. مشفقون: خائفون، يقال اشفق منه خاف منه، واشفق عليه عطف عليه. وجلة: خائفة. سابقون: ظافرون بنيلها. الوسع: القدرة والطاقة. كتاب: هو صحائف الاعمال.
في هذه الآيات يُبرز الله تعالى الصورةَ الحسَنةَ للمؤمنين، بعد أن بين صورةَ الغَفلة والغمرة في القلوب الضالّة.
{إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ....}.
ان هؤلاء المؤمنين يُشفِقون من ربّهم خشيةً وتقوى، وهم يؤمنون بآياتِ ربّهم الكونية التي نَصبَهَا في الأنفس والآفاق دلالةً على وجوده وواحدنيته، ولا يشرِكون به. وهم يؤدون واجباتِهم ويقومون بالتكاليف خير قيام، ويأتون من الطاعاتِ ما استطاعوا. والذين يعطون مِمَّا أُعظوا، ويتصدقون بما تصدَّقوا، وقلوبُهم خائفة ألا يُتَقَبَّل ذلك منهم، لأنهم راجعون إلى ربهم ومحاسَبون.
اولئك الذين جمعوا هذه المحاسنَ يرغبون في الطاعاتِ أشدَّ الرغبة، وهم الذين يسبقون لها فينالون الخيرات.
{وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}.
هنا يتكرّم الله علينا بأنّ ما كلَّفنا به سهلٌ يسيرٌ لا يخرجُ عن حدِّ القدرة والطاقة، وانه مهما قلَّ محفوظٌ عنده في كتاب يَنطقُ بالحق، ولا يَظلم الله أحداً من خلقه بزيادة عقاب أو نقص ثواب.